في هذا اليوم كنت أعاني من صداع نفسي أعرفه جيداً من طول صداقتنا, يزورني بإستمرار و يأتي دائماً مع هذا اليوم و كأنهما وجهان لعملة واحده لا أجيد صرفها, إنه اليوم الذي تتكاثر فيه همومك الصغيره عليك حتى تصبح هماً واحداً كبيراً لا مفر من مواجهته, لا تعرف من أين بالضبط يبدأ هذا اليوم تجده فجأه أمامك بحيث لا تستطيع أن تتحاشاه و تحصن نفسك لمقاومته, تجد نفسك لا تتذكر إلا ما أحزنك, ما أبكاك, ما أغضبك, ما أخافك, و تتهاوى دموعك رغماً عنك دون أي إعتبار للزمان و المكان.
لهذا قررت يومها أن أستأذن من العمل و أزور أمي وحدي, و هذا شئ نادر جداً, ليس لأفضض معها أو القي في حضنها همومي, فقد تعودت أن أحبس همومي في قمم نفسي و لا اشارك بها أحد, إيماناً مني بأن لا أحد في هذه الدنيا يفهمني كما أنا, و أن الهموم تكبر عندما تخرج من محبسها و تصبح حقائق, ثم إني أكره أن يعرف أحدهم همي و يظل يسألني عنه كلما رآني, قد تظنني أزورها لأنهل بعضاً من حنانها و طيبتها لأداوي جروحي و ندبات روحي, لكن في الحقيقه أردت زيارتها فقط لأؤنبها أنها أتت بي لهذه الدنيا, لأعتابها أنها لم تعلمني كيف أواجه مثل هذا اليوم.
لحظي العاثر لم أجدها في المنزل, دخلت غرفتي و كنت كمن لم تدخل غرفتها منذ عهود, ذلك لأني تعودت منذ زواجي أن أجلس في الصالون أو غرفة المعيشه أو السفرة, لكن غرفتي قلما أزورها, ليس إلا للبحث عن إحدى (شرائط الكاسيت) التسعينيه,أو ذكرياتي التائهه, فتحت النافذة التي طالما كانت منبر أحلامي, نافذتي تطل على عماره شاهقه و فيلا و سفاره لإحدى الدول العربية تحيط بكل منهم حديقه صغيره, في الفيلا وجدت السيده الأربعينيه التي ورثتها عن أباها و لم توافق على بيعها أبداً, كانت تجلس في الحديقه مع زوجها الذي تزوجته مؤخراً و كان أول بختها, رأيت سعاده في عيونهما و حديث ناعم مسترسل و هما يرتشفان مشروب دافئ مثل حياتهما, إبتسمت بسعاده, فكم كنت أخاف عليها من وحدتها و أشفق على تأخرها في الزواج.
في العماره رأيت إبن الجيران الذي كان يقف في الشرفه ليلعب بالحديد و يستعرض عضلاته, الآن بعد أن تزوج يجلس يتقدمه كرش عظيم و هو يطالع الصحف بعدم إكتراث, و جارنا الآخر الذي كان يرمي بنظراته الجذابه هنا و هناك و هو يُدخن سجائره, أصبح ذا نظرات فارغه رحل عنه السحر بعد أن أخذته دوامة العمل, و هذه الزوجه الشابه الرقيقه الأنيقه, أراها الآن تنشر الغسيل بملابس مهلهله و نوبات من الصريخ في أطفال كالشياطين حولها.
لماذا لم أتغير أنا؟ مظهري لم يتغير كثيراً عن أيام الكليه, أفكاري لم تتغير, أسلوبي لم يتغير.
لازلت أُصدق كل ما يقال لي
ليتني أصبحت أتحرى عن الشئ قبل تصديقه
لازلت أعطي الحكم الأخير لقلبي
ليتني أعطيت عقلي فرصته في إتخاذ القرار
لازلت أنجرح بمنتهى السهوله ممن أحبهم
ليتني اصبحت أكثر مقاومة و أسمك جلداً
لازلت أتهور و أندفع وراء مشاعري
ليتني نضجت بما فيه الكفايه لأتحكم بنفسي
لازالت حرارتي مرتفعه حتى أن من يصافحني يتساءل(إنت سخنه ولا إيه؟)
ليتني أصبحت بارده و لو قليلاً
لازلت متسرعه و قليلة الصبر
ليتني تعلمت الصبر و التمهل
لازلت أبتسم لكل الناس
ليتني إخترت فقط من يستحق إبتسامتي
لازلت أكره الخصام و أتسامح بسرعه
ليتني تعلمت فنون الخصام
لازلت أضع حدوداً بيني و بين أصدقائي
ليتني أصبحت أكثر إجتماعيه
لازلت ضعيفه مهما تظاهرت بغير ذلك
ليتني أصبحت اقوى بفعل التجارب و مصارعة الحياه
إرتميت على سريري و نمت حاضنة نفسي كالجنين في بطن أمه, في إنتظار أمي حتى أفرغ الدموع المحتبسه في مقلتي, و الآهات المحتبسه بين ضلوعي في حضنها .