صعدت بسرعة البرق و بأنفاس مبهورة الستة أدوار حتى تصل للبيت قبل زوجة أبيها, و لكنها ما أن دخلت حتى وجدتها صوب عينيها تنظر لها نظرات كالطلقات النارية تخترق وجهها و صدرها, و قبل أن تفتح فمها صرخت إمرأة أبيها باكية نادبة حظها و بختها في إبنتها الكُبرى, و لمّا أتى الأب مهرولاً مستفهماً عمّا حدث تلونت الحرباء و تحولت فجأة من الندب و الصراخ إلى الوقار و الحكي العاقل, جلست قبالته و هي تُحلّفه بالله ألا يتسرع و ألا يتصرف تصرفاً أحمق يندم عليه فيما بعد, ثم قصّت عليه كيف كانت تشتري بعض المستلزمات الرخيصه من إحدى شوارع حي الأزهر عندما رأت مريم إبنته الكُبرى و هي تنزل من بناية متهالكه في حاره قديمة.
-و لم تكن وحدها..كانت بصحبة هذا الشاب المعدوم , زميلها الذي تقدمّ لخطبتها في إجازة الصيف.
تيقّن الأب على الفور الموقف, فهذا الشاب المغترب كان يسكن بحي الأزهر في شقة صغيره مؤجره من غرفة و صاله كما أخبرهم, إذن مريم إبنته الجميله و أمل عمره الأخضر البريئ كانت مع شاب في شقته, لم يقوى عقله على التصديق, كان الإتهام أعظم من أن يمرّ بخياله, و نظر لإبنته علّها تحول بينه و بين الإنهيار بكلمه, نظر لها كالمحكوم عليه بالإعدام الذي يستجدي أحدهم حتى ينقذه من الهلاك المُبين, و لم ترد مريم إلّا بدمعات حاره نزلت كخطوط طويله على وجهها, جاهد حتى تخرج كلماته بهدوء و سألها إن كان ما قالته زوجه صحيح, و لم تنبس ببنت شفه, إستجمع قواه مرّة أخرى قبل أن يسأل زوجته أن تؤكد له ما رأت, فأقسمت يمين ثلاثه أنها رأتها بصحبته,
-أعدم إبنتي رأيتها و هي تخرج من البناية في حي الأزهر بصحبته...العاهرة...التي جلبت لنا العار.
صرخت مريم لأول مره في وجوههم جميعاً و هي تنفي تهمة زوج أبيها, و أقسمت يمين ثلاثه أنها لم تطأ حي الأزهر و أنها ليست بعاهرة, لكن المرأة إستمرت تخور كالثور و تنعتها بالعُهر, تنفس الأب الصعداء بقسم إبنته لم يعر زوجته إنتباهاً, فهو رغماً عنه يميل لتصديق إبنته و يتمنى أن تكون زوجته كاذبه, سألها بإهتمام أين كانت إذن, و أجابته بثقه أنها كانت تُذاكر في مكتبة الكُليه و أن بإمكانه الذهاب هناك للسؤال, لم يتمالك الرجل دموعه و قبّل رأسها و هو ينظر بإزدراء لزوجته "يا شيخة حرام عليكِ" و لكنها إستمرت على قسمها و ترديد أنها على إستعداد أن تخسر إبنتها الوحيده إن كانت كاذبه.
مريم دخلت غرفتها و هي تبكي أشدّ مما بكت أمام أبيها, فهي و لأول مره تقسم بالله العظيم كذب.
هي تعرف أنها ليست سندريلا الجميلة حتى تنتظر أن تأتي الساحرة لتهديها السحر و السعادة, و ليست بياض الثلج حتى تنتظر قُبله من أمير تُحييها للأبد, فقد إنتهى عصر الأمراء و لم يبقى من السحر إلّا لمسة حبيبها و نظرته, فهو طوق النجاة الذي أيقنت معه أن للحياة معنى آخر غير المذاكره و الأكل و الوحده, كيف لا تعشق النور الذي تسلل لظلامها الدامس, كيف لا تذوب في القلب الذي إحتواها بعد الحرمان المُرعب, هي لا يهمها إغترابه و لا بيته الصغير و حياته البسيطه هي لا تُفكّر مثلهم في من كان لها ترياق الحُب و الحياه, بعد أن كانت تعيش البؤس مع أب طيب لا يشغله إلّا إرضاء زوجته التي كانت تعاملها أمامه و أمام الناس بيمثاليه شديده و حنان فيّاض, لكن في الحقيقة هي لم تكل لها إلّا كل شر, تهملها, تباعد بينها و بين أبيها, تفرض عليها أشياء كريهه عندما ترفضها بتمرد كانت تعاقب بالحبس و المنع و سلبها أعز أشياءها, و كانت تُخفي أحزانها حتى لا تزيد حياة أبيها بؤساً.
كل ما كان بينهما كان طاهراً و لقاءتهما كانت حُلم, عندما رفض أباها زواجهما لم تغضب و لم تيأس, و برغم أن حبيبها بعِد عنها إلّا أنها أقبلت على حُبّه بشكل أكبر و إستسلمت لمشاعرها دون أي قيود, فهي لم تحبه حتى تتزوجه أو تزجي معه وقتها, هي أحبته و كفى, شاطرت قلبه أحزانه و شربت معه من أنهار العذاب و الإشتياق, و بعد الكثير من محاولات البُعد والإبقاء على الكبرياء و الصمت الجليل في حرم الحرمان و الرضا بالمقسوم, إنهارت كل محاولاتهما الفاشله الكئيبه للبُعد بعد أول لقاء في العام الدراسي الجديد, و دكت المشاعر حصون الكبرياء, و إلتقت القلوب و تعاهدت بميثاق غليظ صامت دون عهود و وعود العُشاق المتناثره هنا و هناك بألا يفرقهما إلّا الموت.
و في أصيل يوم رائع ذهبت معه إلى بيته لإحضار ملزمة دراسية مهمه, و كانت لديها رغبة عارمه في رؤية حياته الهمجية و المكان الذي يحمل عرقه و أنفاسه, و كانت لديها رغبة أكبر في الهروب من عالمها الكئيب الذي يجعلها تتأكد كل يوم كم هي منبوذه و وحيده, هناك قبّلها لأول مره و هو يقرأ معها من الملزمه و عاد للقراءة و كأن شئ لم يكن, و لكن الشفتان إحترقتا و لم يعودا كأن شئ لم يكن إنما بقى فيهما رماد العشق و طعم الشوق اللاذع, تكررت جلسة الدراسه المُطعمه بالقُبُلات المخطوفه, و كان شوقهما و حزنهما في إزدياد و قد رفضت طلبه مراراً في أن يعقد عليها, فهي لازالت تنتظر مباركة أبيها و لو بعد حين, في هذا اليوم عصف بهما الشوق عصفته الكبرى و قبل أن ينشب الحريق قررا تأجيل معركة الشوق إلى أن يتزوجا في كل الأحوال مع إنتهاء العام الدراسي الأخير, و رغم ذلك كانت خائفه و هي بصحبته كخوف السارق و هو يسرق ليسد جوعه, لم تخف منه إنمّا خافت من ضعفهما, من فورة عشق أخرى تأتي على أخضرهما الحالم و يابسهما المجنون, و كرجل نبيل قدّر خوفها و وعدها ألا يجمعهما جدران مره أخرى إلّا في حلال, كانت تخاف الله و تثق في أنه سيسامحهما يوماً ما عندما تتحول الأحلام لحقائق.
وقفت في الشبّاك و هي تدعو ربها أن يسامحها على قسمها الكاذب, بكت كثيراً و هي تبثّ الله ضعفها و شكواها من حياتها المريره و شوقها الحارق لحبيبها, إنها لم تكن تنوي الكذب و لكنها خافت أن يصدق أباها أنها عاهرة و ليس الحُب كالعهر, و ليس الذنب كالعهر, و ليس الطُهر بالثياب و السلوك و لكنه بالقلوب و النوايا, "يا رب أنت أدرى بي منّي فإن كنت أقسمت بك كذب فمن ضعفي و قلة حيلتي و هواني على الناس..يا رب راضية أنا بعقابك و لا أسألك إلّا أن تغفر ذلّتي..يا رب أنا أُحبك و أُحب حبيبي و أُحب أبي..أنا لست عاهرة تبيع جسدها و أنت العليم يا الله"
في المساء سمعت هياج خارج أسوار غرفتها, خرجت و هي مرتعبه على أبيها, فإذا بأختها مريضه و محمومه, يحملها أباها بهلع و هو يوبّخ زوجته : تحلفين على الله كذب و ترهنين حياة إبنتك بقولك الزور..إستغفري الله يا إمرأة و توبي حتى ينجينا من كذبك.
تسمّرت مريم من الصدمه, نعم ليست هي العاهرة و ليس الطُهر بما يظهره الناس و لا بما يحكم به الناس, في هذه اللحظة فقط أيقنت أن الله لا يحاسب الناس إلّا بنواياهم الطيبة و الخبيثه, و كم من طُهر رماه الناس بالعُهر و كم من عُهر أخفته الوجوه الطيبة الحزينة و أدعياء الفضيله, حتى الإستقامة أشاروا لها في السلوك و ما هي إلّا في النفوس.