"عروس البحر" هكذا كانوا يطلقون عليها و هي في أوّج مجدها الأدبي, فمعظم رواياتها و قصصها تسبح على سطح البحر و تدور حول معانيه, سحره و أسراره العظيمه, هي إمرأة على أعتاب الخمسين إعتلت الشهرة منذ أعوام طويله و ذاع صيتها ككاتبه كبيره, حصدت الكثير من النجاح, حب الناس و العديد من الجوائز, لكنها لم تحصد سعادة القلب و لم تجني ثمارالحب ربما لأنها لم تقبل أن تدفن بذوره في أرضها و ربما لأنها أودعت قلبها هناك في معشوقها البحر ثم نسيته, فكان قلمها الفياض هو المنفث الوحيد لمشاعرها.
و لكن القلم جف و نضب الخيال, هكذا حدثت نفسها و هي تجلس في حفل كبير لتوزيع الجوائز على الأعمال الأدبية, دُعيت له و لبّت الدعوة على أمل أن وجودها في هذا المناخ الأدبي الخالص و نسمات النجاح و شهقات الحماس في كل مكان قد تُعيد نبض قلمها و تبث فيه الحياه من جديد, فيعود لينزف حمل الأفكار بدلاً من حالة العقم التي أصابتها, قطعت عليها وحدتها فتاة ثلاثينية هادئة الجمال,
-تسمحيلي بالجلوس؟
نظرت لها بتعجب, ألازال هناك بقايا معجبين, لها زمن لم تقرأ إسمها في جريده أو مجلة و لم يُنشر لها أعمال منذ أعوام عديده, أشارت لها بالجلوس,
-هل تذكُريني؟ تمتمت الفتاة بهدوء
نظرت لها بتمعن و على وجهها علامات الإستفهام, لكن ذاكرتها لم تسعفها بالمره, ربما لأنها حتى بضعة أعوام كانت ترى عشرات الوجوه كل يوم بمكتبها, الصالونات الثقافية, الندوات و غيره,
-ذكّريني بنفسك إن أردت..
ردت بعدم إكتراث, إعتدلت الفتاة في جلستها حتى أصبح كرسيها ملاصقاً لكرسي الكاتبة و بدأت تقصّ عليها في حماس:
-منذ أكثر من خمسة أعوام أقامت محافظتنا ندوة ثقافية وجودك بها كان يعني لنا الكثير, قابلتك فتاة تُحب الكتابة و تظن في نفسها الموهبه, كانت تحلم أن تكون مثلك كنتِ مثل أعلى بالنسبة لها, أعطتك بعض كتاباتها و قصصها التي خطتها بأحاسيس صادقة و نبضات قلب أخضر ملأه الأمل..و وعدتيها بقراءتهم.
حاولت الكاتبة أن تُركّز تفكيرها حتى تتذكر هذا اليوم, لكنها لم تفلح فما أكثر المواقف المشابهه, إستكملت الفتاة حديثها:
-بعدها بفترة قابلتك الفتاة بمكتبك بالقاهرة لتسألك عن رأيك في القصص, أتذكرين ماذا قلتِ لها؟
قلت لها يا سيدتي أنها (فشلت) في توصيل إحساسها لكِ و أنها (لا) تملك أدوات الكتابة و أسسها الصحيحة, وصفتي كتاباتها العفوية بالإسفاف, و جعلتي من أخطاءها النحوية رمزاً للركاكه, أخبرتيها أنك (لم) تجدِ أي لمحة إبداعية و أن كلماتها (تفتقر) للجمال و لغتها (تفتقد) الأصالة و أن هذا النمط الحديث من الكتابة (لن) يُجدي نفعاً مع المثقفين و القراء...هل تذكرتي؟
أجهدت الكاتبة ذاكرتها التي لم تخنها هذه المره و تذكرت الفتاة التي ظلت تُلاحقها بطيفها ليالٍ طويلة قبل أن تُلقي بها في خزانة النسيان, أكملت الفتاة في تأثر:
-لكم آلمتيها يومها و جعلتيها تذرف دموعاً ثقيلة ساخنة, كان يوماً فارقاً في حياتها..
إستطردت الكاتبة في ضجر:
-سأكمل أنا الحكاية, رميتي بكلامي عرض الحائط و إستمريتِ في الكتابة حتى أصبحتِ مشهورة و ها أنتِ الآن بين المثقفين و الأدباء.
ضحكت الفتاة و قالت بسخرية:
-و لو أنك كاتبة كبيرة لكنك أخطأت في وضع نهاية هذه القصة..الفتاة آمنت بك أكثر من إيمانها بنفسها, و بكل ضعف و خنوع سلّمت لرأيك بها, تركت الكتابة و إعتزلت قبل أن تبدأ, تناست أهم و أجمل شئ في حياتها و تركت الطريق بعد أول حجر..
تزوجت و أنجبت و هي الآن سعيده رغم غرفة مظلمة في قلبها, أصبحت ربة منزل تعذبها بقايا حلم وئد قبل أن يولد.
ردت الكاتبة بإنفعال:
-إذن من أنتِ؟
مسحت الفتاة دمعه تسربت من عينها, عادت بكرسيها للوراء و هي تقول:
-أنا صديقتها و رفيقتها في الندوة, و كنت معها أيضاً عند زيارتك, كنت أكتب أيضاً لكني لم أجرؤ على أن أعرض كتاباتي عليكِ فموهبتي كانت نصف موهبتها, لكن تصميمي كان أضعاف تصميمها, و إيماني بنفسي فاق إيماني بأي بشر, لذا لم يوقفني رأي أحد و لم تعوقني الأحجار و الحفر التي ملأت طريقي عن الإستمرار في السير.
و رأيك سيدتي بقدر ما هدم صديقتي..بناني..و شكّل أحلامي بأن أكون مشهورة مثلك لكن لا أتوانى عن مدّ يدي لكل من لدية شبة موهبه.
صرخت الكاتبة:
-كيف تقولين هذا عنّي و أنا التي نسيت نفسي ووهبت حياتي كلها للكتابة من أجل الناس.
-من أجل الناس أم من أجل إرضاء غرورك..كم خطاب, كم رسالة إلكترونية, و كم صاحب موهبة حذفتية من أمامك لأنك لم ترِ إلا نفسك و مجدك.
هنا علا صوت مذيع الحفل و هو يقول:
الجائزة الثالثة لميساء جمال عن قصة "غرق عروس البحر"
نهضت الفتاة لتسلم الجائزة و صفق الجميع بحرارة.
****************
القصة إهداء لكل من لم يحالفه الحظ و يفوز بمسابقة كتاب المائة تدوينة أو أي مسابقة أخرى